فضل رمضان وفوائد الصيام
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيا أيها المسلمون إنكم في مستقبل شهر عظيم مبارك ألا وهو شهر رمضان..شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن ..شهر العتق والغفران..شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات، وترفع الدرجات، وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه لأوليائه العطيات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام فصامه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من صامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم، فاستقبلوه رحمكم الله بالفرح والسرور والعزيمة الصادقة على صيامه وقيامه والمسابقة فيه إلى الخيرات، والمبادرة فيه إلى التوبة النصوح من سائر الذنوب والسيئات، والتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم. وفي الصيام فوائد كثيرة، وحكم عظيمة منها: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم، ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه، ومن فوائد الصوم أنه يعرف العبد نفسه، وحاجته وضعفه وفقره لربه، ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكره أيضاً بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه، والاستعانة بنعمه على طاعته ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الفوائد في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه فدل ذلك على أن الصيام وسيلة للتقوى، والتقوى هي طاعة الله ورسوله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه عن إخلاص له عزَّ وجلَّ ومحبة ورغبة ورهبة وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه، فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى، ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شؤون الدين، والدنيا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض فوائد الصوم في قوله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصوم وجاء للصائم أي وسيلة لطهارته، وعفافه وما ذاك إلاَّ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري ويذكر بالله وعظمته فيضعف سلطان الشيطان، ويقوي سلطان الإيمان، وتكثر بسببه الطاعات من المؤمن، وتقل به المعاصي، ومن فوائد الصوم أيضاً أنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة، وقد اعترف بذلك كثير من الأطباء، وعالجوا به كثيراً من الأمراض، وقد ورد في فضله وفرضيته آيات وأحاديث كثيرة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى أن قال عزَّ وجلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت" وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف يقول الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فمّ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين"، وأخرج الترمذي وابن ماجة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين، ومردة الجن، وفتحت أبواب الجنة ولم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادي يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرِّ أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"، وجاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، ويقول لهم: "جاء شهر رمضان بالبركات فمرحباً به من زائر وآت". وأخرج ابن خزيمة عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خطب الناس في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس إنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزيد فيه في رزق المؤمن، ...-إلى أن قال:- فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان في الغالب لا يزيد في رمضان ولا في غيره على أحد عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الليالي يصلي ثلاث عشرة ركعة، وفي بعضها أقل من ذلك، وليس في قيام رمضان حد محدود لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قيام الليل قال:" مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى"، ولم يحدد صلى الله عليه وسلم للناس في قيام الليل ركعات معدودة بل أطلق لهم ذلك فمن أحبَّ أن يصلي إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة أو ثلاث وعشرين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل فلا حرج عليه، ولكن الأفضل هو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- وداوم عليه في أغلب الليالي وهو إحدى عشرة ركعة مع الطمأنينة في القيام، والقعود، والركوع، والسجود، وترتيل التلاوة، وعدم العجلة؛ لأن روح الصلاة هو الإقبال عليه بالقلب، والخشوع فيها، وأداؤها كما شرع الله بإخلاص وصدق، ورغبة ورهبة وحضور قلب، كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ }، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وجعلت قرت عيني في الصلاة"، وقال للذي أساء في صلاته: " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، ثم كبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائما،ً ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا،ً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وكثير من الناس يصلي في قيام رمضان صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها بل ينقرها نقراً وذلك لا يجوز بل هو منكر لا تصح معه الصلاة، فالواجب الحذر من ذلك، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أسْوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي نقر صلاته أن يعيدها.
فيا معشر المسلمين اغتنموا هذا الشهر العظيم وعظِّموه -رحمكم الله- بأنواع العبادة، والقربات، وسارعوا فيه إلى الطاعات؛ فهو شهر عظيم جعله الله ميداناً لعباده يتسابقون إليه فيه بالطاعات، ويتنافسون في أنواع الخيرات، فأكثروا فيه -رحمكم الله- من الصلوات والصدقات، وقراءة القرآن الكريم، والإحسان إلى الفقراء، والمساكين، والأيتام، وأنواع الذكر، والاستغفار، وسؤال الله الجنة، والاستعاذة به من النار؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فتأسوا بِنَبِيِّكم -صلى الله عليه وسلم- واقتدوا به في مضاعفة الجود والإحسان في شهر رمضان، وأعينوا إخوانكم الفقراء على الصيام والقيام، واحتسبوا أجر ذلك عند الملك العلاّم، واحفظوا صيامكم عماَّ حرمه الله عليكم من الأوزار، والآثام فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يفسق، فإن امرؤ سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم"، وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس الصيام عن الطعام والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث"، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري _ رضي الله عنه _ إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء. واحذروا -رحمكم الله- كلَّ ما ينقص الصوم ويضْعف الأجر، ويغضب الرب عزّ وجلّ من سائر المعاصي؛ كالتهاون بالصلاة، والبخل بالزكاة، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى، وأنواع الظلم، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والدعاوى الباطلة، والأَيْمان الكاذبة، وحلق اللحا أو تقصيرها، وإطالة الشوارب، والتكبر، وإسبال الثياب وشرب المسكرات، والتدخين، وتبرج النساء وتشبههن بنساء الكفار في أزيائهن، وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله. وهذه المعاصي التي ذكرنا محرمة في كل زمان ومكان ولكنها في رمضان أشد تحريماً، وأعظم إثماً لفضل الزمان وحرمته، ومن أقبح هذه المعاصي وأخطرها على المسلمين ما ابتلي به الكثير من الناس من التكاسل عن الصلوات، والتهاون بأدائها في الجماعة في المساجد ولا شك أن هذا من أقبح خصال أهل النفاق، ومن أسباب الزيغ والهلاك، قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى}، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلاّ من عذر" وقال له -صلى الله عليه وسلم- رجل أعمى: يا رسول الله إني بعيد الدار عن المسجد وليس لي قائد يلائمني فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : "هل تسمع النداء بالصلاة"، فقال: نعم. قال: فأجب، وقال عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه-: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلاّ منافق معلوم النفاق أو مريض، وقال -رضي الله عنه-: لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. ومن أخطر المعاصي أيضاً ما بُليَ به الكثير من الناس من استماع الأغاني، وآلات الطرب، وإعلان ذلك في الأسواق وغيرها، ولا ريب أن هذا من أعظم الأسباب في مرض القلوب وصدها عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعن استماع القرآن الكريم والانتفاع به، ومن أعظم الأسباب أيضاً في عقوبة صاحبه بمرض النفاق، والضلال عن الهدى، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، وقد فسرّ أهل العلم (لَهْوَ) الحديث بأنه الغناء، وآلات اللهو، وكل كلام يصدّ عن الحق، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرّ، والحرير، والخمر، والمعازف"، و(الحِرُ) هو: الفرج الحرام، و(الحرير) معروف، و(الخمر) هو: كلّ مسكر، و(المعازف) هي: الغناء، وآلات الملاهي كالعود والكمان وسائر آلات الطرب، والمعنى: أنه يكون في آخر الزمان قوم يستحلون الزنا، ولباس الحرير، وشرب المسكرات، واستعمال الغناء، وآلات الملاهي، وقد وقع ذلك كما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا من علامات نبوته ودلائل رسالته -عليه الصلاة والسلام-، وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا ما نهاكم الله عنه، ورسوله واستقيموا على طاعته في رمضان وغيره، وتواصَوْا بذلك وتعاونوا عليه لتفوزوا بالكرامة والسعادة، والعزّة والنجاة في الدنيا والآخرة.
والله المسؤول أن يُعيذَنا وجميعَ المسلمين من أسباب غضبه وأن يتقبل منا –جميعاً- صيامنا، وقيامنا، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، وأن ينصر بهم دينه ويخذل بهم أعداءه، وأن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه، والحكم به، والتحاكم إليه في كل شيء إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيا أيها المسلمون إنكم في مستقبل شهر عظيم مبارك ألا وهو شهر رمضان..شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن ..شهر العتق والغفران..شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات، وترفع الدرجات، وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه لأوليائه العطيات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام فصامه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من صامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم، فاستقبلوه رحمكم الله بالفرح والسرور والعزيمة الصادقة على صيامه وقيامه والمسابقة فيه إلى الخيرات، والمبادرة فيه إلى التوبة النصوح من سائر الذنوب والسيئات، والتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم. وفي الصيام فوائد كثيرة، وحكم عظيمة منها: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم، ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه، ومن فوائد الصوم أنه يعرف العبد نفسه، وحاجته وضعفه وفقره لربه، ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكره أيضاً بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه، والاستعانة بنعمه على طاعته ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الفوائد في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه فدل ذلك على أن الصيام وسيلة للتقوى، والتقوى هي طاعة الله ورسوله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه عن إخلاص له عزَّ وجلَّ ومحبة ورغبة ورهبة وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه، فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى، ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شؤون الدين، والدنيا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض فوائد الصوم في قوله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصوم وجاء للصائم أي وسيلة لطهارته، وعفافه وما ذاك إلاَّ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري ويذكر بالله وعظمته فيضعف سلطان الشيطان، ويقوي سلطان الإيمان، وتكثر بسببه الطاعات من المؤمن، وتقل به المعاصي، ومن فوائد الصوم أيضاً أنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة، وقد اعترف بذلك كثير من الأطباء، وعالجوا به كثيراً من الأمراض، وقد ورد في فضله وفرضيته آيات وأحاديث كثيرة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى أن قال عزَّ وجلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت" وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف يقول الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فمّ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين"، وأخرج الترمذي وابن ماجة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين، ومردة الجن، وفتحت أبواب الجنة ولم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادي يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرِّ أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"، وجاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، ويقول لهم: "جاء شهر رمضان بالبركات فمرحباً به من زائر وآت". وأخرج ابن خزيمة عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خطب الناس في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس إنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزيد فيه في رزق المؤمن، ...-إلى أن قال:- فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان في الغالب لا يزيد في رمضان ولا في غيره على أحد عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الليالي يصلي ثلاث عشرة ركعة، وفي بعضها أقل من ذلك، وليس في قيام رمضان حد محدود لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قيام الليل قال:" مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى"، ولم يحدد صلى الله عليه وسلم للناس في قيام الليل ركعات معدودة بل أطلق لهم ذلك فمن أحبَّ أن يصلي إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة أو ثلاث وعشرين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل فلا حرج عليه، ولكن الأفضل هو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- وداوم عليه في أغلب الليالي وهو إحدى عشرة ركعة مع الطمأنينة في القيام، والقعود، والركوع، والسجود، وترتيل التلاوة، وعدم العجلة؛ لأن روح الصلاة هو الإقبال عليه بالقلب، والخشوع فيها، وأداؤها كما شرع الله بإخلاص وصدق، ورغبة ورهبة وحضور قلب، كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ }، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وجعلت قرت عيني في الصلاة"، وقال للذي أساء في صلاته: " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، ثم كبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائما،ً ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا،ً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وكثير من الناس يصلي في قيام رمضان صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها بل ينقرها نقراً وذلك لا يجوز بل هو منكر لا تصح معه الصلاة، فالواجب الحذر من ذلك، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أسْوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي نقر صلاته أن يعيدها.
فيا معشر المسلمين اغتنموا هذا الشهر العظيم وعظِّموه -رحمكم الله- بأنواع العبادة، والقربات، وسارعوا فيه إلى الطاعات؛ فهو شهر عظيم جعله الله ميداناً لعباده يتسابقون إليه فيه بالطاعات، ويتنافسون في أنواع الخيرات، فأكثروا فيه -رحمكم الله- من الصلوات والصدقات، وقراءة القرآن الكريم، والإحسان إلى الفقراء، والمساكين، والأيتام، وأنواع الذكر، والاستغفار، وسؤال الله الجنة، والاستعاذة به من النار؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فتأسوا بِنَبِيِّكم -صلى الله عليه وسلم- واقتدوا به في مضاعفة الجود والإحسان في شهر رمضان، وأعينوا إخوانكم الفقراء على الصيام والقيام، واحتسبوا أجر ذلك عند الملك العلاّم، واحفظوا صيامكم عماَّ حرمه الله عليكم من الأوزار، والآثام فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يفسق، فإن امرؤ سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم"، وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس الصيام عن الطعام والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث"، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري _ رضي الله عنه _ إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء. واحذروا -رحمكم الله- كلَّ ما ينقص الصوم ويضْعف الأجر، ويغضب الرب عزّ وجلّ من سائر المعاصي؛ كالتهاون بالصلاة، والبخل بالزكاة، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى، وأنواع الظلم، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والدعاوى الباطلة، والأَيْمان الكاذبة، وحلق اللحا أو تقصيرها، وإطالة الشوارب، والتكبر، وإسبال الثياب وشرب المسكرات، والتدخين، وتبرج النساء وتشبههن بنساء الكفار في أزيائهن، وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله. وهذه المعاصي التي ذكرنا محرمة في كل زمان ومكان ولكنها في رمضان أشد تحريماً، وأعظم إثماً لفضل الزمان وحرمته، ومن أقبح هذه المعاصي وأخطرها على المسلمين ما ابتلي به الكثير من الناس من التكاسل عن الصلوات، والتهاون بأدائها في الجماعة في المساجد ولا شك أن هذا من أقبح خصال أهل النفاق، ومن أسباب الزيغ والهلاك، قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى}، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلاّ من عذر" وقال له -صلى الله عليه وسلم- رجل أعمى: يا رسول الله إني بعيد الدار عن المسجد وليس لي قائد يلائمني فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : "هل تسمع النداء بالصلاة"، فقال: نعم. قال: فأجب، وقال عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه-: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلاّ منافق معلوم النفاق أو مريض، وقال -رضي الله عنه-: لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. ومن أخطر المعاصي أيضاً ما بُليَ به الكثير من الناس من استماع الأغاني، وآلات الطرب، وإعلان ذلك في الأسواق وغيرها، ولا ريب أن هذا من أعظم الأسباب في مرض القلوب وصدها عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعن استماع القرآن الكريم والانتفاع به، ومن أعظم الأسباب أيضاً في عقوبة صاحبه بمرض النفاق، والضلال عن الهدى، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، وقد فسرّ أهل العلم (لَهْوَ) الحديث بأنه الغناء، وآلات اللهو، وكل كلام يصدّ عن الحق، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرّ، والحرير، والخمر، والمعازف"، و(الحِرُ) هو: الفرج الحرام، و(الحرير) معروف، و(الخمر) هو: كلّ مسكر، و(المعازف) هي: الغناء، وآلات الملاهي كالعود والكمان وسائر آلات الطرب، والمعنى: أنه يكون في آخر الزمان قوم يستحلون الزنا، ولباس الحرير، وشرب المسكرات، واستعمال الغناء، وآلات الملاهي، وقد وقع ذلك كما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا من علامات نبوته ودلائل رسالته -عليه الصلاة والسلام-، وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا ما نهاكم الله عنه، ورسوله واستقيموا على طاعته في رمضان وغيره، وتواصَوْا بذلك وتعاونوا عليه لتفوزوا بالكرامة والسعادة، والعزّة والنجاة في الدنيا والآخرة.
والله المسؤول أن يُعيذَنا وجميعَ المسلمين من أسباب غضبه وأن يتقبل منا –جميعاً- صيامنا، وقيامنا، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، وأن ينصر بهم دينه ويخذل بهم أعداءه، وأن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه، والحكم به، والتحاكم إليه في كل شيء إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة